ليس من السهل أن تكون طفلاً!

ليس من السهل أن تكون طفلاً!

يمر الصغير من مرحلة إلى أخرى، ويعيش تغيرات جذرية وكبيرة. كان غسان طفلا ضاحكا، سعيدا وسهلاً، يستجيب لنا على العموم في أغلب الأشياء.. الآن غسان ما يزال ضاحكاً سعيداً، لكنه لم يعد سهلا كما كان. صار التعامل معه يتطلب اعتباره طرفاً آخر. لم نعد نقرر كل شيء حسب ما نراه نحن مناسبا له ولنا، بل صار هو الآخر يقرر ما يريده ويناسبه.
إنه يخطو بثبات وعزيمة نحو الاستقلال بذاته!
وسأبدأ هذه المرة من النهاية، حيث أني لن أبدأ بالتقديم.. ثم توصيف المرحلة لأنتهي إلى أهدافها.. بل أبدأ بالأهداف، لأنها بالغة الأهمية ! أو ربما لأنني (ولحماسي الشديد لها) لا أستطيع تركها للأخير !
دعوني أسافر بكم إلى المستقبل، كبر ابنكم وصار شابا (طبعا نتحدث عن الإناث والذكور على حد سواء).. إن مرحلة بداية الاستقلال، تراهن على تحقيق الآتي:
– ‏بإمكانه أن يقوم بجميع احتياجاته في حياته اليومية دون الحاجة لأحد
– ‏لا يشكل القيام بحاجاته اليومية أي عبء نفسي على ابنكم، أي أنه يقوم بحاجاته دون أن يستثقلها أو يحتاج طاقة إرادة كبيرة للقيام بها
– ‏التعامل معه في الحياة الاجتماعية خفيف على القلب، فهو ليس اتكاليا ولا متطلبا، هو مسؤول، متوازن وبسيط
– ‏لدى ابنكم الجرأة على اتخاذ القرارات سواء في المواقف الصعبة أو في سائر شؤون الحياة
– ‏ابنكم إنسان مسؤول، يؤدي واجباته بشكل سلس ويسير
– ‏ابنكم لديه قدرة على الالتزام الذي يساعده على أداء واجباته وتحقيق أهدافه
– ‏ابنكم مقدام
– ‏لدى ابنكم ميزة المبادرة، وهي ميزة تفتح له الأبواب المغلقة ببساطة لأنه يتقدم نحوها ويقرر فتحها بنفسه
– ‏التعامل مع ابنكم مريح وسهل لأنه يحترم بتلقائية مساحات الآخرين، ذلك أن مساحته الخاصة كذلك واضحة، فلا يتوغل في علاقاته على نحو يختل معه التوازن وينهار البنيان
– ‏لدى ابنكم القدرة على بناء علاقات متوازنة قوية ودائمة، بفضل طبعه وسلوكه المسؤولين والمتوازنين
– ‏يسهل على ابنكم اختيار الأشخاص المناسبين في حياته وإنهاء العلاقات غير الصالحة له، لأن الإنسان المستقل لا يقع في فخ التعلق
– ‏لدى ابنكم قدرة على تقديم دعم قوي للآخرين، لأن لديه مخزونا عظيما منه فمنبعه موجود داخله
أجل، كل هذا وأكثر يبدأ من الآن ورهين بما يحدث في حياة صغيرك الآن. هل تدركون قيمة الاستقلال بالذات؟ هل تدركون الكنوز التي تأتينا مع تحقيق استقلاليتنا..؟ قوة الإرادة.. القدرة على الالتزام.. تحمل المسؤولية.. الاعتماد على النفس.. السلام الداخلي.. الإقدام والعزيمة.. التوازن والمناعة النفسية.. المبادرة.. الذكاء.. وغيرها الكثير.
تبدأ هذه المرحلة مع خطوات الصغير الأولى، حين يكتسب قدرة على الحركة والتنقل، وتنكشف معالمها بالكامل حين يصير لديه قدرة كبيرة في التحكم بجسده وحركته، حيث يستطيع الجري واستخدام أطرافه جيدا. حينها، ينمو داخله دافع قوي نحو تعلم المزيد. بالإضافة إلى أن قدراته الذهنية تسمح له الآن بإدراك حدود ذاته، فهو واعٍ الآن أنه “هو”، شخص له جسمه وإرادته.
ومع إدراكه لحدود ذاته، ومع تطور مهارته الحركية كثيراً، يكتشف الصغير أن له تأثيرا على العالم حوله ويعجبه ذلك كثيرا. لذلك، فهو يرغب باختبار قدراته أكثر وتعزيزها. والأهم أنه يريد إثبات ذاته الفردية وإرادته المستقلة المنفصلة على الآخرين.
عموما، يدخل الصغير هذه المرحلة بين عمر 14 شهرا وعمر السنة والنصف، وتتزامن ذروتها مع فترة الفطام بعمر العامين وتبقى معالمها طاغية بارزة إلى أن يقترب الصغير من إتمام الثلاث سنوات.
من أبرز المعالم التي تدشن هذه المرحلة هو “الاعتراض”. سيعترض الصغير على كل شيء.. سيقول لا، لا ثم لا. وعليكما أن تكونا سعيدين للغاية بذلك!
إن محاولته للحصول على استقلاله، تبدأ بفصل ذاته عن والديه. أي أنه يريد أخذ المسافة التي تكفي لتبين حدود ذاته بعيدا عن والديه. ولأجل هذه الغاية تحديدا يبدأ بالاعتراض على كل شيء. فما تلك سوى محاولة لأخذ مسافة منكما، يقول من خلالها “أنا لست أنت.. لست امتداداً لك..”.
كيف علينا التعامل مع اعتراضه المتكرر؟
ببساطة، علينا تقبل ذلك واحترامه. إن غاية الصغير هي التأكد من أنه “هو” وأن له الحق بأن يكون هو. لذلك فمرحلة الاعتراض قد لا تدوم أكثر من أسبوع او اثنين، ولن يستمر أكثر إلا إن رفضت السماح له بأن يكون “هو”، أي أن يكون ذاتا منفصلة عنك. إن لم تتقبل ذلك وصرت تعترض على اعتراضه، ستشتد مقاومة الصغير لك وسيدافع بضراوة عن فردانيته وهويته التي بدأت للتو بالتكون.
كل ما علينا استيعابه هنا، هو أن حاجة الطفل في هذه المرحلة ليست هي الاعتراض وإنما تمييز نفسه عن الآخرين وإثبات استقلاليته. فالاعتراض ليس سوى وسيلة لبلوغ هذه الغاية.
بدل هذا، يتعامل الكثير من الآباء مع هذه المرحلة بمحاولة إخضاع الصغير و “ترويضه”. فيأخذ الأب أو الأم ما يصدر من الصغير بشكل شخصي فيقول “لابد له أن يعلم أنني من يقرر هنا وليس هو.” أو “ليس عليه أن يتعلم أن يقول لا لوالديه” أو “واش أنا اللي بّاك ولا نتا اللي بّا!” وأيضا ” سأريه من المتحكم هنا.”. ويمضي الوالدان في محاولات مستميتة لإخضاع ابنهما واقفين بالمرصاد لفطرته السليمة التي تعبر عن نفسها، وتحاول إكسابه ما يحتاجه ليكون في المستقبل إنسانا مستقلا متوازنا صالحا وسعيدا. إن لم تسمح له أنت بقول “لا..” فمع من عليه أن يتعلم قولها ؟ ومتى؟!
لا يدرك الوالدان أنهما بمحاولاتهما إخضاع ابنهما، يصنعان منه إنسانا خاضعا مع العالم كله. إن ما يتعلمه ابنك في علاقته بك، هو كل عدته لمواجهة الحياة. إن أتحت له المجال ليقول “لا” لك، فإنه سيكون قادرا على قولها لغيرك. لكنك إن قابلت محاولاته الأولى للاستقلال بالإجبار والإخضاع، فإن ما سيتعلمه هو “ليس من حقي أن أرفض وأقول لا، علي الاستجابة، علي أن أكون مطيعا.” وإن كنت تستخدم العنف فإنه بالاضافة لهذا سيتعلم أنه “إن قلت لا، فإني سأتعرض للأذى، علي الرضوخ لأبقى في أمان.” أما إن كنت تستخدم الابتزاز العاطفي لإرضاخه، فإن ما سيتعلمه هو :” لأحصل على الحب علي أن أكون مطيعا. إن غامرت بالاعتراض سأخسر محبة هذا الشخص واهتمامه.”. سيتعرض صغيرك لكل أنواع الأذى والاستغلال ولن يستطيع الاعتراض، بل سيقابل هذا الأذى بالرضوخ ولن يجرؤ على رفضه، ببساطة لأنه لم تتح له الفرصة ليتعلم كيف يرفض!
أجل، الأمر بهذه الخطورة وأكثر، فهذا جانب واحد وصفته لكم، وما خفي أعظم. كل شيء يبدأ الآن.. وتعاطينا مع صغارنا إما يصنع منهم النموذج الأول الذي حدثتكم عنه، أو النموذج الأخير في الفقرة السابقة، أو نسخة مرتبكة بين هذا وذاك. أول ما علينا كوالدين أن نعيه، هو أن الصغير لا يقرر اي شيء من هذا، وأن كل ذلك ليس له علاقة بنا كأبوين. أنه لا يفعل ذلك قاصداً ليزعجنا أو يسيطر علينا، وإنما هو ينساق وراء سليقة وضعها فيه الله. أننا حين نخضعه، فنحن لا نعلمه الاخلاق النبيلة ونعلمه طاعة والديه، وإنما نضخعه للعالم كله بأشراره قبل أخياره. محاولة الاستقلال هي مرحلة أساسية لابد لنا جميعا منها لنستطيع أن نكون أشخاصا يتحملون مسؤوليتهم ويعتمدون على أنفسهم في هذه الحياة.
الاعتراض.. أول خصائص هذه المرحلة، وأبرزها. خصصت النص للحديث عنها وحدها، لأهميتها. علينا أن نتصف بالوعي وبالكثير من الصبر وسعة الصدر، لنستطيع دعم صغارنا لعبور هذه المرحلة حاملين معهم عميقا في تربة نفوسهم الخصبة زرعا طيبا سيثمر في حياتهم لاحقا أشياء رائعة.
لهذه المرحلة خصائص أخرى، وتحديات عديدة، سأتركها للنص التالي، حتى لا أطيل عليكم أكثر.
في النص القادم أستمر في الإجابة على هذه الأسئلة :
هل يعني تقبلي لاعتراضه أن أستجيب له في كل شيء؟
هل يعني أن أترك له الحرية التامة لفعل كل ما يريد؟
كيف علي التعاطي مع اعتراضه في المواقف الحرجة أو التي تشكل خطورة؟
ما هي باقي خصائص هذه المرحلة التي تبدأ مع الخطوات الأولى وتنتهي بعمر بين السنتين والنصف والثلاث سنوات؟
ما هي تحدياتها؟ وهل لها أهداف أخرى عدى إكسابه لخاصية الاستقلالية؟
ماذا عن المحيط الذي يقول أن سلوك الطفل هو دليل على قلة تربيته وسوء أخلاقه؟!
ماذا عمن يقولون باستخدام الضرب لإخضاع الصغير وتعليمه الأدب؟
أراكم في نص قادم، محبتي الخالصة. 💙
#رحلتنا_مع_غسان

Add Comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *