رغم أنه ظريف، بريئ للغاية، ويفهم الوجود بطريقته الخاصة.. رغم طاقته الكبيرة المتفجرة، وشغفه بكل شيء يقابله.. رغم حماسه المبهر لكل التجارب الجديدة.. شجاعته.. إقدامه.. إصراره.: رغم كل هذه الأشياء التي تجعله مختلفا عنا نحن الكبار، لأن الحياة تتدفق فيه ومن خلاله بينما صارت أقل انسيابا فينا.. رغم اختلافه عنا.. هو ليس إنسانا مؤجلا.. إنه الآن من قلب طفولته، إنسان كامل.. أي أنه يستحق احتراما كاملا.. حين يتحدث، يستحق أن نصغي إليه.. حتى قبل أن يتعلم الكلام.. حين يحاول التعبير بأي طريقة، يجدر بنا الإصغاء باحترام وأخذه على محمل الجد كما نفعل حين يتحدث شخص بالغ. حين نخطئ بحقه، هو يستحق بجدارة أن نتراجع عن خطئنا ونقدم اعتذارنا. حين نتحدث إليه، يجب أن نفعل باحترام لشخصه وعقله وشعوره. حين يقدم لنا شيئا، يجب أن نظهر له الامتنان والتقدير الذي يستحق. في سائر الأوقات ودون أي استثناء، يجب احترام مشاعره والحرص عليها وحفظها كحجر كريم فريد. حين يرفض شيئا، يجب احترام ذلك، وتركه يختار، إلا إن وجب ذلك الشيء، فلنجد سبيلا لجعله يستجيب غير الإجبار وخصوصا الإجبار المهين.. كأن “نجرجره” أو نصرخ بوجهه أو نعنفه. الإنسان الكامل له حرية إرادة، له رأي وله صوت يُسمع، له كرامة، وكذلك الصغير
إنسان كامل وله كل ذلك.
كيف إذن نفعل في أمور الحياة اليومية حين يرفض الصغير ما يجب فعله؟
أعتقد اعتقادا راسخا أن الطفل الذي ينشأ في مناخ مليئ بالاحترام والتقدير هو طفل سهل، يعرف كيف يَحترم تماما كما يُقدَّم له الاحترام. تقل معه المواجهات التي يصعب التعامل معها. وسبل التعامل السليم كثيرة.. ويجدر بي كمرب يقظ، وقبل أن تحدث هذه المواجهة بحيث تصطدم إرادتي بإرادته، أن أسأل نفسي، ما الذي يجعلني أرى أنه من الضروري أن يفعل أو لا يفعل كذا وكذا؟
هذا سؤال جوهري. قبل أن أطالب ابني بالاستجابة لما أطلبه منه، يجب أن أحدد لماذا أطلبه. إن كان الأمر ضروريا، كأن يأكل مثلا.. سأعي بسرعة حين أطرح السؤال أنه إن لم يكن يريد الأكل الآن فلا بأس بذلك، ربما هو مشغول بشيء آخر يثير حماسه أكثر. وصدقوا، الأكل مطلب أساسي للإنسان سيعبر عن نفسه تلقائيا، وسرعان ما سيأتيك الصغير طلبا للأكل. وإن كنت قد وضعت مواعيدا للأكل، فلابد أن الصغير اعتاد هذا النظام بل ويرتاح فيه، ولن يخالفه إلا استثناء. أما إن لم يكن ثمة نظام، فسارع بإقامته لأنه من بين الوسائل التي تسهل التعامل مع الصغار خصوصا في مراحل “لا” .. حين يميل الصغير إلى معارضة الوالدين تأكيدا على استقلاليته.
حين نطرح ذلك السؤال حول السبب الذي يقف خلف إصرارنا على استجابة الصغير لما نطلب، سنتراجع بسرعة عن إصرارنا ذلك في مواقف كثيرة، ونتجنب الكثير من الصدامات المجانية. وتتبقى مواقف قليلة، يجب أن نتعامل فيها بذكاء وسعة صدر لنجعل الصغار يستجيبون دون أن نجبرهم ودون أن نخدش كرامتهم بأي درجة.
كما أنه من المفيد كثيرا أن نوضح مع أنفسنا ماهية الحدود التي نفرضها على صغارنا. لابد أننا سنبقيهم بعيدين عن كل ما يمكن أي يؤذيهم.. وهذا الحد الصحي.. سنجعلهم أيضا يحترمون الحد الديني الأخلاقي، ثم الحد القانوني. حين نهم بفرض شيء ما، لنقم مباشرة بمحاولة إدراجه ضمن أحد هذه الحدود، فإن لم نجد له مكانا بينها، فلنعد النظر فيه.
والجدير بالذكر هنا أنه كلما قلت القواعد والحدود، كلما كان الطفل والإنسان عموما أقدر على احترامها.. وأنها كلما تعددت، كلما صعب كثيرا العمل بها.
لا تقل صغير، لا بأس إن كذبت.. كذب أبيض.. لا بأس إن أخلفت وعدي.. سينسى سريعا.. من حقي أن أجبره، فأنا أدرى بمصلحته.. إنه صغير ولا يقول شيئا ذا أهمية فلا ضرورة لأن أصغي له ويكفي أن أجيبه من وقت لآخر “آه آه.. أو.. واو..” بينما أنظر في هاتفي.. عقله صغير وفهمه قليل، لأقدم له أي مبرر لا معنى له ليستجيب لي.. لا بأس أن أخيفه.. أحرجه.. أهينه ليستجيب.. هذا مجرد طفل سينسى كل ذلك لاحقا والمهم الآن أن يفعل ما آمره..
ابنك يستحق أن تنظر إليه وتحدثه، أن تصغي إليه، أن تمنحه كامل انتباهك في وقتكما الخاص.. أن تصغي حين يعبر عن نفسه.. أن تحترم عقله، تحترم فردانيته.. ألا تقارنه بغيره.. أن تحسن الظن به.. أن تصدقه القول وتصَدّقه.. أن تفي بوعدك له.. أن تحرص على مشاعره.. أن تعتذر له عند الخطأ.. أن تحفظ كرامته في السر والعلن..
وأخيرا.. الطفل الذي يعتاد أن نصغي إليه حين يعبر عن نفسه، سيعبر عن نفسه بهدوء، وسيكون وجوده خفيفا على القلب والتعامل معه سهلا يسيرا. هو يعلم أننا سنصغي حتى حين يهمس ويكون نداؤه خافتا للغاية..أما الطفل الذي لم يصغ إليه أحد، فسيضطر لجعلنا نسمع صوته جميعا، ولن يتوقف حتى يجد السبيل لنلاحظ وجوده أخيرا ونصغي إليه.. قد تكون طريقته هي العنف.. العدوانية.. العناد.. وأي سلوك سلبي يصعب التعامل معه.
وعموما، عند التعامل مع الصغار، لنطرح على أنفسنا هذا السؤال : كيف كنت سأشعر إذا تعامل معي أحدهم هكذا؟ هل سأقبل ذلك؟ لم لا؟ هل هو مؤذ؟ مهين؟ يمس كرامتي؟ يمس حريتي؟ إن كان الجواب هو “لا”، فتراجع فورا. إن كون ابنك صغيرا، لا يعني أن لديه كرامة صغيرة.. بل لديه كرامة كاملة. أما الحدود والقواعد الضرورية، فنجعله يستجيب لها بذكاء وسعة صدر، ودون أن يشعر أنه مجبر عليها.
وثق أن صغيرك سيقدم لك تحديدا ما قدمته له.. فإن أنشأته في مناخ طيب، يملؤه الاحترام والتقدير والحب، فتلك ستكون لغته معك وفي الحياة عموما، ولن يقبل في علاقاته المستقبلية بلغة أقل رقيا منها. سيكون ابنك شخصا مريحا، لنفسه، لك وللآخرين.
وأخيرا.. مرة أخرى.. هذا الصغير ليس إنسانا مؤجلا، إنه الآن ومن قلب طفولته إنسان كامل.
#رحلتنا_مع_غسان
Add Comment